فصل: باب عشر الأرضين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب عشر الأرضين:

قَالَ: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ قَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَكْسُوبِ مَالُ التِّجَارَةِ فَفِيهِ بَيَانُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ»، ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَنْبِتُ فِي الْجِنَانِ وَيُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي فَفِيهِ الْعُشْرُ الْحُبُوبُ وَالْبُقُولُ وَالرِّطَابُ وَالرَّيَاحِينُ وَالْوَسْمَةُ وَالزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْدُ وَالْوَرْسُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ الْبُقُولِ مِنْ كُلِّ عَشْرِ دَسْتَجَاتٍ دَسْتَجَةٌ وَأَخَذَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيثِ الْعَامِّ «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَكَانَ يَقُولُ: الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُعَدُّ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فِي وُجُوبِ الْخَرَاجِ فَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: السَّعَفُ فَإِنَّهُ مِنْ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ، وَلَيْسَ فِي الشَّجَرِ شَيْءٌ وَالتِّبْنُ فَإِنَّهُ سَاقٌ لِلْحَبِّ كَالشَّجَرِ لِلثِّمَارِ وَالْحَشِيشُ فَإِنَّهُ يُنَقَّى مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي وَالطُّرَفَاءُ وَالْقَصَبُ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِيِ بِهِمَا عَادَةً وَالْمُرَادُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ فَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ وَكَذَلِكَ فِي قَصَبِ الذَّرِيرَةِ الْعُشْرُ.
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ وَالرَّيَاحِينِ إنَّمَا الْعُشْرُ فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ.
وَاحْتَجَّا فِيهِ بِحَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ».
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ إذَا مَرَّ بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ تَافِهًا عَادَةً يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصُّيُودِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَإِنَّمَا يَجِبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَنَالُهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ كَالسَّوَائِمِ وَمَالِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا مَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْخَضْرَاوَاتُ وَالرَّيَاحِينُ فَتَافِهَةٌ عَادَةً وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا فِي الزَّعْفَرَانِ، وَلَمْ نُوجِبْ فِي الْوَرْسِ وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا انْتِفَاعًا عَامًّا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْحِنَّاءِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ وَفِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: هُمَا مِنْ الْخُضَرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِمَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ يَقَعَانِ فِي الْكَيْلِ وَيَبْقَيَانِ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ حَوْلٍ إلَى حَوْلٍ فَيَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَالْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرِّطَابِ وَبَزْرُهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَكَذَلِكَ فِي الثِّمَارِ قَالَ: لَا شَيْءَ فِي الْكُمِّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَمَا يُجَفَّفُ مِنْهَا لَا يَعْتَبِرُ وَأَوْجَبْنَا فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْعُشْرَ وَفِي الْفُسْتُقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْعُشْرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْخَارِجِ وَكَثِيرِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِي أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْر فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِ هُنَا لَا يُعْتَبَرُ فَهُوَ وَخُمُسُ الرِّكَازِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ وَاحْتَجَّا فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ فَقِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَا: هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ كَالزَّكَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَافِهٌ عَادَةً، وَهُوَ عَفْوٌ شَرْعًا وَمُرُوءَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ تَصِيرُ الْأَرْضُ نَامِيَةً فَيَجِبُ الْعُشْرُ كَمَا يَجِبُ الْخَرَاجُ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ مَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بِالْبَيْعِ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ وَمَا لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالسَّوَائِمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُلَّ إذَا أَدْرَكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِذَا أَدْرَكَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ.
وَإِذَا تَفَرَّقَتْ الْأَرَاضِي لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِمَّا لَيْسَ فِي عَمَلِهِ وَمَا فِي عَمَلِهِ دُونَ النِّصَابِ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُضَمُّ بَعْضُ ذَلِكَ إلَى الْبَعْضِ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَاحِدٌ وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَخْذِ لِلْعَامِلِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَأَخْرَجَتْ طَعَامًا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْشِرُ إنْ بَلَغَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّوَائِمِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِي الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِالْخَارِجِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ الَّتِي لَا مِلْكَ لَهَا، ثُمَّ الْعُشْرُ يَجِبُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَأَمَّا مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا سُقِيَ بَعْلًا، أَوْ سَيْحًا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَعَلَّلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ وَقَالُوا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الزِّرَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَنَتْبَعُهُ وَنَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: لَا عُشْرَ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْوَسْقِ لِلنِّصَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ طَعَامًا وَعَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعُشْرُ، وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَعْدِمُ غِنَى الْمَالِكِ بِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غِنَى الْمَالِكِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُكَاتَبٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَجْنُونٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا شَيْءَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعُشْرُ عِنْدَهُ قِيَاسُ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ أَمَّا عِنْدَنَا فَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُلَّاكِ أَمَّا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى أَقْوَامٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا.
(قَالَ): رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ وَزَرَعَهَا قَالَ عُشْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بَالِغًا مَا بَلَغَ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَجْرِ، أَوْ أَكْثَرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْخَارِجِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْأَرْضِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وُجُوبَ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْمَنْفَعَةُ سَلِمَتْ لِلْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ الْأُجْرَةُ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا سَلِمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بِعِوَضٍ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي لِلزَّرْعِ، ثُمَّ الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْض النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَخَرَاجُ أَرْضِ الْمُؤَاجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ أَمَّا أَذَا أَعَارَ أَرْضَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي الْخَارِجِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُعِيرِ وَقَاسَهُ بِالْخَرَاجِ وَقَالَ: حِينَ سَلَّطَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ سَلِمَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ مَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ سَلَامَةَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ كَانَ بِعِوَضٍ وَبِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَّ الْمُعِيرُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخَرَاجِ الذِّمَّةُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ لَازِمٌ فِي الْأَرْضِ وَمَحَلُّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ كَانَ أَعَارَ الْأَرْضَ مِنْ ذِمِّيٍّ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ صَدَقَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُعِيرُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الْكَافِرِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْعُشْرِ.
(قَالَ): مُسْلِمٌ اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضَ خَرَاجٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَصِيرُ عُشْرِيَّةً؛ لِأَنَّ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ، وَهَذَا لَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ مَالِكُهُ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَقَاسَ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِخَرَاجِ الرُّءُوسِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ بِالسَّوَادِ فَكَانَ يُؤَدِّي فِيهَا الْخَرَاجَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مَعْنَى الصِّغَارِ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ دُونَ الْبَقَاءِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْعُقُودِ فِي ابْتِدَاءِ الِاسْتِرْقَاقِ دُونَ الْبَقَاءِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الرَّقِيقُ يَبْقَى رَقِيقًا بِخِلَافِ خَرَاجِ الرُّءُوسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَا قُلْنَا إلَى عَادَاتِ النَّاسِ.
(قَالَ) وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ فَإِنْ أَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَرَجَعَتْ إلَى الْمُسْلِمِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا فَإِنْ بَقِيَتْ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ وَانْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ عُشْرَانِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ جَمِيعًا وَكَانَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَجَعْلُ هَذَا قِيَاسُ السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا الْكَافِرُ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِي النَّامِيَةَ فِي دَارِنَا لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ أَصْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْكَافِرِ يَشْتَرِي عَبْدًا مُسْلِمًا وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ: بِأَنَّ مَا كَانَ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ يَبْقَى وَبِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ الْحَادِثِ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
وَمَالِكٌ يَقُولُ: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا، وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا لِإِبْقَاءِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: مَا صَارَ وَظِيفَةً لِلْأَرْضِ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ، ثُمَّ الْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْعُشْرَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَمَالٍ يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يَضْعُفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: الْأَرَاضِي النَّامِيَةُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ فِي دَارِنَا وَالْوَظِيفَةُ إمَّا الْخَرَاجُ، أَوْ الْعُشْرُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ كَاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَالُ الْمُسْلِمِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَى تَغْلِبِيٌّ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِلصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَضْعِيفَ الْعُشْرِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا صَارَ مِنْ وَظِيفَةٍ لِلْأَرْضِ يُقَرَّرُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَيْهَا، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عُشْرٌ وَاحِدٌ.
وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ هَذَا وَذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا أَوْ بَاعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ يَجِبُ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ أَمَّا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: تَضْعِيفُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ، أَوْ بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهُوَ نَظِيرُ السَّوَائِمِ إذَا أَسْلَمَ عَلَيْهَا التَّغْلِبِيُّ أَوْ بَاعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: التَّضْعِيفُ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ فِي الْعُشْرِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ حَتَّى يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ وَبَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةٌ لَا تَتَبَدَّلُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ، وَلَا بِبَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ فَهَذَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ فَإِنَّهُ لَا وَظِيفَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ حَتَّى إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ فَيَسْقُطُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ، أَوْ بِتَبَدُّلِ حَالِهِ بِالْإِسْلَامِ.
أَمَّا بَيَانُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجِيَّةِ فَنَقُولُ أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَحَدُّهَا مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةٍ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ مَكَّةَ أَرْضَ خَرَاجٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَظِّفْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَكَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ وَكُلُّ بَلْدَةٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُبْدَأُ بِالْخَرَاجِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ مَعْنَى الصِّغَارِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَكُلُّ بَلْدَةٍ افْتَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِي النَّوَادِرِ ذُكِرَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي تَقْرُبُ مِنْ الْأَرَاضِي الْعُشْرِيَّةِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ؛ لِأَنَّ لِلْقُرْبِ عِبْرَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْقَرْيَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهَا لِحَقِّ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَالْمَرْءُ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِفِنَاءِ دَارِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ عَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا، أَوْ نَهْرٍ شَقَّهُ لَهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَجَيْحُونَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ بَعْضِ الْأَنْهَارِ الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ فَإِذَا سَاقَ إلَى أَرْضِهِ مَاءَ الْخَرَاجِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلْخَرَاجِ فَيَلْزَمُهُ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ وَحْدُ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةَ حُلْوَانَ وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ إلَى عَبَّادَانَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَظَّفَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ وَبَعَثَ لِذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ.
(قَالَ): وَكُلُّ بَلْدَةٍ فَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَهْرًا، ثُمَّ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْكَافِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَيُوَظَّفُ الْخَرَاجُ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرَاضِي تَبَعٌ لِخَرَاجِ الْجَمَاجِمِ، وَالذِّمِّيُّ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الْخَرَاجُ لِمَا بَيَّنَّا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ: قَدْ أَدَّيْت الْعُشْرَ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ فَكَانَ نَظِيرُ زَكَاةِ السَّوَائِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(قَالَ): وَإِنْ وَضَعَ الْعُشْرَ، أَوْ الزَّكَاةَ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ وَسِعَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَصَارِفَ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ مَا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةُ وَلِلنَّاسِ كَلَامٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْفُقَرَاءِ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} قِيلَ لَا إلْحَافًا، وَلَا غَيْرَ إلْحَافٍ وَفِي الْمِسْكِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} وَقَدْ جَاءَ يَسْأَلُ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيُظْهِرُ افْتِقَارَهُ وَحَاجَتَهُ إلَى النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ لَا يَسْأَلُ، وَلَا يُعْطَى لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْي.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَكِنْ لَا يُغْنِيه قَالَ الرَّاعِي أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَمَنْ قَالَ الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ قَالَ: الْمِسْكِينُ مَنْ يَمْلِكُ مَالًا يُغْنِيَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} وَقَالَ الرَّاجِزُ هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ تَغِيثُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهْ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ.
وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مُشْتَقٌّ مِنْ انْكِسَارِ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَالْحَدِيثُ يَشْهَدُ لِهَذَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمَّتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْخِلَافُ.
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى جَمْعِ الصَّدَقَاتِ وَيُعْطِيهِمْ مِمَّا يَجْمَعُونَ كِفَايَتَهُمْ وَكِفَايَةَ أَعْوَانِهِمْ، وَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الْفُقَرَاءِ كَانَتْ كِفَايَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَلِهَذَا يَأْخُذُونَ مَعَ الْغِنَى، وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا سَقَطَ حَقُّهُمْ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ، وَكَانَتْ الزَّكَاةُ مُجْزِيَةً عَنْ الْمُؤَدِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ نَائِبُونَ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَكَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَكَانَ يُعْطِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرْضِ اللَّهِ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ يُؤَلِّفُهُمْ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقِيلَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَقِيلَ كَانُوا وَعَدُوا أَنْ يُسْلِمُوا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ قُلْنَا الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ لِدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ جُزْءًا مِنْ مَالِ الْفُقَرَاءِ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ السَّهْمُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ انْقَضَى الرَّشَا بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى أَنَّهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ استَبْذَلُوا الْخَطَّ لِنَصِيبِهِمْ فَبَذَلَ لَهُمْ وَجَاءُوا إلَى عُمَرَ فَاسْتَبْذَلُوا خَطَّهُ فَأَبَى وَمَزَّقَ خَطَّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيفًا لَكُمْ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الدِّينَ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ فَعَادُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرَ بَذَلْت لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} فَالْمُرَادُ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالصَّدَقَةِ عَبْدًا فَيَعْتِقَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمَا يَأْخُذُهُ بَائِعُ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُوجَدُ التَّمْلِيكُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ قَالَ: أَوَ لَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا، فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهِ».
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَالْغَارِمِينَ} فَهُمْ الْمَدْيُونُونَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَهُمْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ هَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِمْ.
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَاجُّ» وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الطَّاعَاتُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ الْمَقْصُودُ بِهِمْ الْغُزَاةُ عِنْدَ النَّاسِ.
وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ الْغِنَى بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْبَدَنِ لَا بِمِلْكِ الْمَالِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ «وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ».
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا عَلَى الطَّرِيقِ يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ كَمَنْ يَكُونُ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا يُسَمَّى ابْنَ الْفَقْرِ وَابْنَ الْغِنَى، وَابْنُ السَّبِيلِ غَنِيٌّ مِلْكًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَيُؤْمَرَ بِالْأَدَاءِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَدًا حَتَّى تُصْرَفَ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِلْحَالِ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ لَا مُسْتَحِقُّونَ لَهَا عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهَا حَتَّى لَا تَجُوزَ مَا لَمْ تُصْرَفْ إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَبِحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرَقْعَةً» وَاعْتَبَرَ أَمْرُ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ بَعْضِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» وَبَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَدَقَةٍ إلَى بَيْتِ أَهْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالصَّرْفِ إلَى وَاحِدٍ، وَبِهِ فَارَقَ أَوَامِرَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا اللَّفْظُ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ تَقَعُ خَالِيَةً عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ بِخِلَافِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادُ بَيَانُ الْمَصَارِفِ فَإِلَى أَيِّهِمْ انْصَرَفَتْ أَجْزَأَتْ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا اسْتَقْبَلَ جُزْءًا كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خِلَّةِ الْمُحْتَاجِ.
.
(قَالَ): وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ عُشْرٍ مَا لَمْ يَزْرَعْ وَعُشْرُ ثَمَرٍ لَمْ يَخْرُجْ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِ الطَّلْعِ فَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَهُوَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدُ كَمَالِ النِّصَابِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: السَّبَبُ الْمُوجِبُ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِلْكُ رِقَابِ النَّخِيلِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْعُشْرِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَتَعْجِيلُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الزَّرْعِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ عَمَلٌ سِوَى مُضِيِّ الزَّمَانِ، وَهُوَ الزِّرَاعَةُ وَبَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَا زُرِعَ قَبْلَ أَنْ يَنْبُتَ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ كَهُوَ فِي الْحَبِّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ.
(قَالَ): وَلَا يُعْطِي زَكَاتَهُ وَعُشْرَهُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادَهُ وَكُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمُؤَدِّي بِالْوِلَادَةِ، أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِيتَاءِ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى وَالْمَنَافِعُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مُتَّصِلَةٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً} فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (قَالَ): وَلَا يُعْطِي مُدَبَّرَهُ وَعَبْدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكَهُ كَسْبُهُمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى مُكَاتَبٍ غَنِيٍّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِيتَاءُ تَمَّ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ لِلْغَنِيِّ مِلْكٌ، وَلَا يَدٌ لِلْحَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ لَا يَتِمُّ فَمَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ وَجْهٍ لِزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى} قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ جَائِزَةٌ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُعْطِي زَوْجَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُعْطِيه (وَاسْتَدَلَّا) بِحَدِيثِ «زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ: يَجُوزُ وَلَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مَالِ زَوْجِهَا فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ كَمَا يَتِمُّ بِالصَّرْفِ إلَى الْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لِزَوْجَتِهِ أَصْلُ الْوِلَادِ، ثُمَّ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ يُمْنَعُ صَرْفُ زَكَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ الْأَصْلُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَمَا بِالْوِلَادِ وَحَدِيثُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً ضَيِّقَةَ الْيَدِ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى غَنِيًّا، أَوْ وَلَدًا صَغِيرًا لِغِنًى مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ بِالنَّصِّ فَإِنْ صَرَفَ إلَى زَوْجَةِ غَنِيٍّ وَهِيَ فَقِيرَةٌ، أَوْ إلَى بِنْتٍ بَالِغَةٍ لِغِنًى، وَهِيَ فَقِيرَةٌ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا إلَى الْفَقِيرِ وَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ عَلَى الْغِنَى لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَصْرِفًا كَأُخْتٍ فَقِيرَةٍ لِغَنِيٍّ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ بِالْإِنْفَاقِ فَهُوَ نَظِيرُ وَلَدٍ صَغِيرٍ لِغَنِيٍّ وَكَذَلِكَ لَوْ صَرَفَهَا إلَى هَاشِمِيٍّ أَوْ مَوْلًى هَاشِمِيٍّ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ الْأَرْقَمَ بْنَ أَبِي الْأَرْقَمِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَجَاءَ مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لِبَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةِ النَّاسِ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
وَهَذَا فِي الْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ وَالْأَوْقَافِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُؤَدِّي يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهِ الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَنِيًّا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِي إنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ فَقِيرٌ، أَوْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، أَوْ كَانَ جَالِسًا مَعَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ظَهَرَ لَهُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ فِي الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يُجْزِئُهُ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، أَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الصَّرْفُ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ وَقَدْ فَعَلَ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ إلَى جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِمَا وَقَدْ لَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ عَلَى غِنَى نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَذَلِكَ يُوقَفُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَالِ وَطَهَارَتِهِ.
وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَى أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ جَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمَا وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً فَيَتَبَيَّنُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، أَوْ مُكَاتَبُهُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَفَعَ أَبِي صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَصْرِفَهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَأَعْطَانِي فَلَمَّا رَآهُ أَبِي فِي يَدِي فَقَالَ: مَا إيَّاكَ أَرَدْت يَا بُنَيَّ فَقُلْت مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَرُدُّهُ عَلَيْك فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت» فَقَدْ جَوَّزَ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ التَّطَوُّعِ فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْكَمُ بِهِ وَيُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَجُوزُ.
وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا فَهُوَ كَالذِّمِّيِّ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
(قَالَ): وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَ رَجُلًا مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَهُ عِيَالٌ وَإِنْ أَعْطَاهُ جَازَ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ إعْطَاءُ الْمِائَتَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْمِائَتَيْنِ إلَيْهِ إنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: غِنَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ يَقْتَرِنُ بِقَبْضِهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغِنَى يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَقْتَرِنْ الْغِنَى بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ مُتَّصِلًا بِهِ فَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ لِلْقُرْبِ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ جَازَتْ الصَّلَاةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَكَانَ مَكْرُوهًا لِلْقُرْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: جُزْءٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَتِهِ لِلْحَالِ وَالْبَاقِي دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ.
، ثُمَّ الْغِنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِيَهَا فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ صَاحِبَ عِيَالٍ لَا تُغْنِيه الْمِائَتَانِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمِائَتَيْنِ لِقِيَامِ حَاجَتِهِ كَابْنِ السَّبِيلِ تُصْرَفُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ.
وَسُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا، أَوْ خُمُوشًا، أَوْ كُدُوشًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا الْغِنَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا».
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمَا فِي حُرْمَةِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَبِهِ نَقُولُ: «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَلَا اسْتِشْرَافٍ فَخُذْهُ فَإِنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ» وَذَمَّ السُّوَالَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ، وَلَا مَالٌ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سِوًى».
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا حُرْمَةُ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ.
أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا وَرَآهُمَا جَلِدَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَالِ».
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْإِعْطَاءَ لَهُمَا وَقِيلَ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ حُرْمَةَ الْأَخْذِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِمِلْكِ خَمْسِينَ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا عَلَى هَذَا لِيَكُونَ النَّاسِخُ أَخَفُّ مِنْ الْمَنْسُوخِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.
(قَالَ): رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى آخَرَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ وَكِيلُهُ فَتَعَيَّنَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَرَفَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا الْعَيْنَ دُونَ الدَّيْنِ.
(قَالَ): رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ مِنْ مَالِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ كَانَ تَامًّا غَيْرَ مَوْقُوفٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ رِضَا الْآخَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا الْمَالَ مِنْهُ إنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، أَوْ مُسْتَوْهِبًا مِنْهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ ذَلِكَ وَالْفَقِيرُ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ يَقْبِضُ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى الْآمِرِ هُنَا إلَّا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَهُنَاكَ أَمَرَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَهُنَا لَا يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهُ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي.
يُوضِحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ هُوَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ بِالْأَدَاءِ بِأَمْرِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَهُنَا مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُؤَدِّي بِأَمْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَنْ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ عَوِّضْ هِبَتِي مِنْ مَالِكَ لِفُلَانٍ فَعَوَّضَهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالشَّرْطِ.
(قَالَ): رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاة مِنْ الْعَيْنِ تَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْقِيمَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْأَدَاءِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ هَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَهُوَ الْعَيْنُ إلَّا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَيْنِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ زَائِدًا كَانَ، أَوْ نَاقِصًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْوَاجِبُ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إمَّا رُبْعُ عُشْرِ الْعَيْنِ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ وَاجِبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْقِيمَةِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ هُنَا أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ حَتَّى إذَا كَمُلَ النِّصَابُ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا فِي الْجَامِعِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَقَرَّرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ.
(قَالَ): وَالْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ الْعَسَلِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِيهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَفِي الْقُطْنِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ وَفِي السُّكَّرِ كَذَلِكَ وَفِي الْعَسَلِ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ وَالْفَرْقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ تَكُون تِسْعِينَ مَنًّا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْمُعْتَبَرِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ وَرَوَى عَشْرُ قِرَبٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُقَاسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى مُؤَثِّرٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَالٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَدْنَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: نَصْبُ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوصُ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ مَعَ السَّوَائِمِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ.
(قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِيهَا نَحْلٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ صَاحِبُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَخَذَ عَسَلَهَا فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُتَّخَذْ لِذَلِكَ أَمَّا كَوْنُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُحَرَّزًا لَهُ بِمِلْكِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ إلَيْهِ أَسْبَقَ حُكْمًا فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى بِمِلْكِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّيْرِ إذَا فَرَّخَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَجَاءَ رَجُلٌ، وَأَخَذَهُ فَهُوَ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يُفَرِّخُ فِي مَوْضُوعٍ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ إذَا قَوِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لِلْفَرْخِ بِمِلْكِهِ فَكَانَ لِلْآخِذِ فَأَمَّا النَّحْلُ فَيُعَسِّلُ فِي الْمَوْضِعِ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ فَصَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لَهُ بِمِلْكِهِ كَالْمَاءِ إذَا اجْتَمَعَ فِي أَرْضٍ فَاجْتَمَعَ مِنْهُ الْحَمَأُ وَالطِّينُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَمَاءٌ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: إذَا وُجِدَ الْجَوْزُ، أَوْ اللَّوْزُ فِي جَبَلٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ كَالصُّيُودِ وَالْعُشْرُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ نَمَاءِ أَرْضِ الْعُشْرِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ نَمَاءٌ كُلُّهُ فَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَخُمُسِ الْمَعَادِنِ.
(قَالَ): وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ، أَوْ لَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنَّ عَادِيَ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي» وَبَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا حَاجَةَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْطُ الْمِلْكِ، وَهُوَ إذْنُ الْإِمَامِ كَمَا تَبَيَّنَ بِمَا وَرَدَ السَّبَبُ، وَهُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، ثُمَّ النَّاسُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرَاضِي سَوَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ أَدَّى إلَى امْتِدَادِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِيهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي إحْيَاءِ نَاحِيَةٍ وَجَعَلَ التَّدْبِيرَ فِي مِثْلِهِ إلَى الْأَئِمَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْمَصْلَحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إطْفَاءِ ثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَعُودُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ مَعَ بَيَانِ حَدِّ الْمَوَاتِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا نُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.